آراء

الجيران يكتب : مقاصد الشريعة

د.عبد الرحمن الجيران
د.عبد الرحمن الجيران

المعنى المقصود من شرع الحكم وذلك هو المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم بجلبها أو تكميلها، أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم درأها أو تقليلها، وذلك كالتخفيف أو دفع المشقة في السفر، بالنسبة لتشريع القصر والفطر، وكحفظ النفوس بالنسبة لتشريع وجوب القصاص وحفظ العقول بتحريم الخمر ووجوب الحد بشربها.
معنى المقاصد: «فهو ملائمة الوصف للحكم بحيث يلزم من ترتيب الحكم عليه تحقق مصلحة، أو دفع مفسدة»، صالحة لأن تكون مقصود الشارع من تريع شرع الحكم كما في الاسكار، فإنه مناسب للتحريم، لأنه يغطي العقل وحفظ العقل مصلحة، ودرء المفسدة متمحض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه بتحريم تعاطي المسكرات والمخدرات اشد تحريماً.
قال الغزالي: «أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة. ولسنا نعني به ذلك. فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو ان يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، وكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة».

مقاصد الشريعة في عمل الداعي:
إن مهمة الأنبياء والرسل كانت تهدف الى تحقيق هذه المقاصد، فاذا بين لهم ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتجلب السكينة والطمأنينة للمسلم، سارعوا الى تنفيذ قوله تعالى {إن الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} العنكبوت 45، واذا بين لهم ان القلوب تخشع وتطمئن الى ذكر الله ذكروا الله عند قوله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد 28، اذا ما ذكرهم بأن الفاحشة تنشر الفساد بين المسلمين وتخرب بيوتاً عامرة بأهلها وتشرد الأبناء، ابتعدوا عن الزنا عندما يسمعهم قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا انَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} الاسراء 32.
وهكذا دور الداعية فيجب ان يكشف للناس عن المقاصد والأهداف باستمرار ليتم الاقتناع بدين الله والترغيب في شريعته والتشويق الى تكاليفه والدعوة الى أحكامه، والمطالبة بتطبيقها والتزامها، لأن الطبيعة البشرية تحب ما ينفعها، وتميل قلوبها وأحاسيسها الى ما وضح طريقه وظهرت منفعته.

المقاصد في الدعوة:
لقد نبه علماء السلف الى أهمية مراعاة المقاصد في مجال الدعوة الى الله ومنهم الشوكاني رحمه الله رحمة واسعة فهو يرى ان الداعية ينبغي عليه ان يكون كالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان هجيراه الارشاد الى التيسير دون التعسير، والى التبشير دون التنفير، والى الألفة واجتماع الأمر وينفر عن الفرقة والاختلاف، لما في الألفة من الجلب للمصالح والدفع للمفاسد، وفي الفرقة والاختلاف عكس ذلك.
ثم وضح الأمر بقوله: «فالعالم المرتاض بما جاءنا من الشارع الذي بعثه الله تعالى متمما لمكارم الأخلاق… اذا جعل غاية همه وأقصى رغبته جلب المصالح الدينية للعباد ودفع المفاسد عنهم، كان من أنفع دعاة المسلمين وأنجح الحاملين لحجج رب العالمين».
وتظهر أهمية المقاصد بالنسبة للداعية في ترتيبه سلم الأولويات في الدعوة الى الله سبحانه، فيقدم الضروريات على الحاجيات والتحسينات، ويقدم الأصل على التابع، ويقدم ما فيه مصلحة عامة على ما فيه مصلحة خاصة، ويحذر الناس من الضرر الأكثر خطورة قبل تحذيرهم له من الضرر الأقل خطورة، ويخاطب الناس على قدر عقولهم ومستوياتهم من الفهم، والداعية كالطبيب لابد له من معرفة المقاصد لأنها الدواء الذي يجب ان يقدمه في الوقت المناسب وفي الظرف المناسب ويسمى هذا بمصطلح العصر فقه الواقع.
وقال الامام الجويني «ان مقاصد الشريعة وقواعدها العامة هي المخرج الذي يغاث منه الناس في زمن التياث الظُلم، وتجري مجرى الأس والقاعدة، والملاذ المتبوع الذي اليه الرجوع وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية واعتبر ان من لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي ليس على بصيرة في وضع الشريعة وخاصة في زماننا هذا الذي تسلق فيه الجهلاء وأنصاف المتعلمين الى سلم الافتاء، فأفتوا بغير علم فضلو وأضلو فاعتبرو أموراً من مصالح الدعوى وهي من مفاسد الدعوى كالخروج على الحكام في ثورات الربيع العربي المزعوم؟».
قال العز ابن عبد السلام: «من تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز اهمالها وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها وان لم يكن فيها اجماع ولا نص ولا قياس خاص، فان فهم نفس الشرع يوجب ذلك» وهذا منهج السلف الذي ساروا عليه.
قال ابن تيمية: «والى ساعتي هذه ما علمت قولاً قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه الا وكان القياس معه، لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم، وانما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الاسلام من المحاسن التي تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة، والرحمة السابغة، والعدل التام» وينبه شيخ الاسلام الى أهمية السنه المطهرة حيث يقول:
«وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم، فهذا باب واسع لكن جماع الخير ان يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فانه هو الذي يستحق ان يسمى علمأً..، ولتكن همته فهم مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وسائر كلامه، فاذا اطمأن قلبه ان هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى، ولا مع الناس اذا أمكنه ذلك».
ويقول: معرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم.

هل في الإسلام حزبية:
الجواب لا حزبية في الاسلام، هذا ما أقره علماؤنا قديماً وحديثاً، فلا يوجد في المجتمع المسلم هذه الأحزاب المعروفة اليوم باختلافها وتناحرها وتباغضها فهي ليست من الاسلام في شيئ، قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ اذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ اخْوَانًا} ال عمران 103.
وقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية عن جماعة من الناس يسمون حزباً، ويتخذون لهم رأساً، ويدعون الى بعض الأشياء، فأجاب: «وأما رأس الحزب فانه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وان كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والاعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الاثم والعدوان»، ومعلوم لدينا ان التفاوت في المدارك والقدرات في البشر سنة من سنن الله في الخلق، ولما كانت بعض النصوص دلالتها ظنية ذات أوجه وهي من المسائل الاجتهادية، فان حصول التفاوت في فهمها والتعامل معها أمر طبيعي.
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلايزالونَ مُخْتَلِفِينَ * الا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} هود 118 – 119.
وعلى هذا الفهم جرى عمل المدارس الفقهية المعتمدة عن أهل السنه والجماعة كمذهب مالك واحمد وابى حنيفة والشافعي.
والاختلاف المذموم المنهي عنه هو ما كان اختلافاً في أصل الدين، أما الاختلاف الواقع في فروعه فهو اختلاف تدعو اليه طبيعة النصوص وطبيعة البشر، وهذا نظير ما وقع فيه الصحابة رضي الله عنهم مثل حديث «لا يصلين أحدكم العصر الا في بني قريظة» البخاري.
قال الامام الشاطبي: «وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين، ولم يفترقوا، ولم يصيروا شيعاً، لأنهم لم يفارقوا الدين، وانما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لا يجدون فيه نصاً، واختلفت في ذلك أقوالهم، فصاروا محمودين، لانهم اجتهدوا فيما أمروا به».
فالنصوص التي تنهى عن التفرق في الدين انما تنصرف الى أهل البدع، الذين يتحزبون على أصول كلية بدعية، تخالف الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والاجماع، أو الى التفرق المذموم الذي ينشأ عن الاختلاف في الفروع.
أما مجرد الانتصار لما يراه الانسان أقوى حجة، أو أليق بمقاصد الشريعة وأرجى تحقيقاً لمصالح المسلمين، والسعي لوضع هذه الاجتهادات موضع التنفيذ في اطار من الالتزام بالموضوعية، والتجرد للحق، والبعد عن البغي والاستطالة على الآخرين، فهذا الذي تتسع لمثله قواعد السياسة الشرعية وخاصة في العمل السياسي اليوم.
يقول الامام الشاطبي: «فكل مسألة حدثت في الاسلام فاختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الاسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء».. بل هي من تحريش الشيطان بينهم.
فيجب على كل عاقل ان يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ اذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ اخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آل عمران 103، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى.
فالتعددية والاختلاف والتنوع لا تمثل افتراقاً في الدين، ما دام أنها ظلت تحت جامع الاسلام، المتمثل في أصوله الثابتة، التي هي وضع إلهي، معلوم بالفطرة والضرورة… سواء أكانت التعددية في فروع الأحكام الدينية، من فقه الفروع، أم كانت من السياسات العامة».
المفهوم الحديث للحزب السياسي، لا يختلف عن المفهوم القديم للحزب الذي ورد ذكره في القرآن الكريم على سبيل الذم فالحزب بالمفهوم المعاصر مجموعة متآلفة من الناس يجمع بينهم وحدة الاتجاه السياسي، ويسعون للوصول للحكم وهم في سبيل ذلك يتبعون قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وهذا مبدأ يهودي الأصل لا يتناسب مع الاسلام.

الأحزاب قديماً:
قال بعض المختصين:
«أما الأحزاب بمفهومها القديم فهي تكتلات عشائرية أو قبلية أو قومية تؤلف بينها العصبيات الجاهلية وتجمع بينها وحدة الالتقاء على حرب الاسلام والكيد لأهله، فهي مرفوضة لهذا المعنى سواء سميت حزباً أو جماعة أو أمة أو تنظيماً أو دولة، أو ما شاء أصحابها من المسميات فان المذموم ليس مجرد التسمية وانما الاجتماع على أواصر جاهلية والانتصاب لحرب الله ورسوله«.
«فالمصطلح مقبول أو مرفوض باعتبار المبادئ والمقاصد… والتحزب – أي انتظام الناس في أحزاب – خاضع من حيث القبول أو الرفض اسلامياً، باعتبار المعايير الحاكمة للتنظيم الحزبي..وليس للمصطلح باطلاق، ولا للتحزب والتنظيم الحزبي باطلاق» كما قال العلماء لا مشاحّة في الاصطلاح.
ان النصوص لم تذم مطلق الأحزاب والحزبية وانما وردت في ذم أحزاب معينة بالذات هي أحزاب الشرك وأحزاب الشيطان الذين اجتمعوا على محاربة الأنبياء، فالذم غير متعلق بالأحزاب والحزبية بصفة عامة، بل متعلق بصورة خاصة من صور الحزبية، فالكفار والمشركون حزب الشيطان ومعهم المنافقون، أما المؤمنون فهم حزب النبي صلى الله عليه وسلم حزب الله وشتان بين الحزبين. أما ان تزعم جماعة من الجماعات الاسلامية اليوم بأنها تمثل الاسلام وحده، وبالتالي لا يحق لأحد ان يدعو الى الله الا من خلالها أو يحاربونه ويعادونه، فهذا من دعوى الجاهلية.
ان الأحزاب كما وردت بدلالة الذم في القرآن الكريم والسنة النبوية فقد وردت أيضاً بدلالة تفيد المدح ففي القرآن الكريم يأتي قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَانَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} المائدة 56، ونسبة الحزب لله تعالى أكبر مدح لهذا الحزب.
ولأجل هذا قال الامام ابن العربي: «الأحكام لا تتعلق بالألفاظ، الا ان ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة، فان ظهرت في غير مقصدها لم تعلقه عليها ألا ترى ان البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى، وقد قال الله تعالى: {إن اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} التوبة 111.
ولا يقال هذه الآية دليل جواز مبايعة السيد عبده لأن المقصدين مختلفان.

حكم طلب الولاية في السياسة الشرعية:
استدل من رأى ذلك في قوله تعالى في سورة يوسف:: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ} يوسف 55.
قال النووي بعد ان عقب على حديث سمرة في النهي عن طلب الولاية بقوله: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية..».
ثم قال: «وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها، ولم يعدل فيها، فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط، وأما من كان أهلاً للولاية وعدل فيها، فله فضل عظيم، حيث تظاهرت به الأحاديث الصحيحة، كحديث سبعة يظلهم الله، وحديث… ان المقسطين على منابر من نور وغير ذلك، واجماع المسلمين منعقد عليه، ومع هذا فلكثرة الخطر فيها حذر صلى الله عليه وسلم منها، وكذا حذر العلماء وامتنع منها خلائق من السلف، وصبروا على الأذى حين امتنعوا عنها».
قال أهل العلم الأصل ان طلب الولاية مكروه، وأن اجتنابها هو الحزم، الا ان هذا الأصل العام يرد عليه استثناء:
من تتعين عليه الامارة، كمن يقوم بالأمر عند خشية الضياع وأنه يكون في هذه الحالة كمن أعطى بغير حرص، بل قد يغتفر له الحرص في هذه الحالة لكونه يصير واجباً عليه.
وقد يستدل على ذلك بقصة يوسف عليه السلام في طلبه للولاية من عزيز مصر، كما قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ انِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} يوسف 55.
قال الآلوسي في تفسير هذه الآية: «وفيه دليل على جواز مدح الانسان نفسه بالحق اذا جهل أمره، وجواز طلب الولاية اذا كان الطالب ممن يقدر على اقامة العدل واجراء أحكام الشريعة وان كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب اذا توقف على ولايته اقامة واجب مثلاً وكان متعيناً لذلك، وما في الصحيحين من حديث عبدالرحمن بن سمرة».
وقال القرطبي معلقاً على الآية ودلت الآية أيضاً على جواز ان يطلب الانسان عملاً يكون له أهلاً.
فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبدالرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبدالرحمن ابن سمرة، لا تسأل الامارة فانك ان أوتيتها عن مسألة وكلت اليها، وأن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها».
فالجواب:
إن يوسف عليه السلام انما طلب الولاية لأنه علم انه لا أحد يقوم مقامه في العدل والاصلاح وتوصيل الفقراء الى حقوقهم، فرأى ان ذلك فرض متعين عليه، فانه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم: لو علم انسان من نفسه ان يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه ووجب ان يتولاه ويسأل ذلك ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك كما قال يوسف عليه السلام.

واقع طلب الولاية عند الأحزاب:
مسألة طلب الولاية لدى الأحزاب الاسلامية اليوم مسألة أكبر من ان تحمل على هذه التأولات لانها حرص دائم وتنافس مستمر من جميع الأحزاب، وهذا الحرص الدائم والتنافس المستمر هو الذي يفضي – ولو مع مرور الزمن وطول الأمد ونسيان الضوابط – الى التهارج والتقاتل وسفك الدماء وانتهاك الأعراض. كما يحصل في بلاد العالم الاسلامي اليوم.
كما ان سلوك الأحزاب في هذه المسألة لا يقف عند حد العرض والطلب وانما يتعداه الى السعي الحثيث والحرص والتنافس الحاد وهذا لا يقاس بحال يوسف عليه السلام.
ولعل هذا يمكن ان يفهم قول الماوردي في الأحكام السلطانية: «وليس طلب الامامة مكروهاً، فقد تنازع أهل الشورى، فما رُدَّ عنها طالب ولا مُنع منها راغب، واختلف الفقهاء فيما يقطع به تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما، فقالت طائفة: يقرع بينهما، ويقدم من قرع معهما».
ان معقد الولاء والبراء هو الاسلام وحده والاحزاب تهدم هذا الأصل في سعيها للولاية.
وأي حزب سياسي يجعل الانتظام فيه أساس الولاء والبراء ولا يعتبر سائر المسلمين ممن هم خارج الحزب اخواناً لأعضاء الحزب يجب لهم من المودة والمحبة والنصرة ما لأعضاء الحزب، فانه حزب مذموم ولا يجوز ولاؤه ولا نصرته، بل ان مجرد وجوده يعتبر منكراً تجب ازالته.
ان التعددية السياسية وقيام الأحزاب المتعارضة يفضي الى خلقين متقابلين من أرذل الأخلاق وأكثرها ضرراً على الأمة وهما: تزكية النفس والطعن في الآخرين وتجريحهم.
ولما خرج الخوارج على عثمان رضي الله عنه وقدحوا فيه درأ عن نفسه، وذكر محاسنها وأخبرهم بأعماله الصالحة كتجهيز جيش العسرة، وحفر بئر رومة وغير ذلك وأعلمهم بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة.
قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على أحاديث اخبار عثمان رضي الله عنه بذلك: «وفيها جواز تحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج الى ذلك لدفع مضرة أو تحصيل منفعة، وانما يكره ذلك عند المفاخرة والمكاثرة والعجب».
أما بالنسبة لما يتضمنه التنافس الحزبي والدعاية الانتخابية من نقد الآخرين والتشهير بهم وتتبع عوراتهم وسقطاتهم، واشاعتها على الملأ تحت ستار النقد وحرية التعبير ونحوه كما يحصل اليوم في الندوات ووسائل التواصل الاجتماعي، فان ذلك كله يجب ان يرد الى الشرع وأن يعاد النظر فيه في ضوء الأصول والقواعد الشرعية المعتبرة والأخلاق الاسلامية، والمدخل الشرعي المعتبر لهذا العمل أمران: النصيحة والحسبة والنصيحة لها آدابها وشرائطها والحسبة لها أحكامها المفصلة ودرجاتها المرعية.
فإذا تمت صياغة الأحكام الشرعية المتعلقة بالنصيحة والحسبة وتضمنتها وثيقة تكون دستوراً للمنافسات السياسية والدعايات الانتخابية فاننا نكون قد خففنا الشر كثيراً على طريق الطهارة السياسية، وأتحنا للأمة منافسة شريفة تنقدح فيها الآراء، وتتكشف فيها المواهب وتوسد فيها الأمور الى أهلها، بعيداً عن الأهواء الحزبية والمهاترات الدعائية.

السياسة الشرعية والمصلحة:
إن من آكد ما يجب على ولي الأمر اليوم: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة فان زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من الخلل والأمة ممنوعة من الزلل، فلا سبيل اذن لارخاء العنان لأهل الأهواء ليكونوا أمراء الأمة وأهل الحل والعقد فيها، الله الا ما كان من ضرورة تقدر بقدرها وهذا القدر محكم لا مجادلة فيه.
ومبدأ تعليق الولايات بالشروط من المبادئ المعروفة في الفقه الاسلامي، وقد عنون الشوكاني لجواز تعليق الولاية على شرط فقال في نيل الأوطار: باب تعليق الولاية بالشرط «وساق تحت هذا العنوان ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اذا قتل زيد فجعفر وان قتل جعفر فعبدالله بن رواحة».
وقد أشار الماوردي الى جواز تعليق الولاية بالشرط في معرض حديثه عن العهد بالولاية مستشهداً بعمل النبي صلى الله عليه وسلم في تولية القواد في غزوة مؤتة ومعللا ذلك بأن الولايات من المصالح العامة التي يتسع حكمها على أحكام العقود الخاصة.
ومثاله في التاريخ واقعة الجسر المشهورة مع الفرس كان الأمير أبا عبيد بن مسعود الثقفي وقد أوصى بالامارة على الجيش لثمانية من بعده على الترتيب ان قتل فقتل هو وسبعة من الأمراء من ثقيف من بعده حتى انتهت الامارة الى الثامن وهو المثنى بن حارثة.
وروي ان عمر رضي الله عنه لما أنفذ بالجيش الى نهاوند قال: «قد أمرت حذيفة بن اليمان حتى ينتهي الى النعمان بن مقرن، وقد كتب الى النعمان: ان حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة، وان حدث بحذيفة فعلى الناس نعيم بن مقرن».
فإذا دعت الضرورة أو المصلحة الراجحة الى تقييد هذا العقد بزمن معين ثم يعود الأمر بعد ذلك الى الأمة – صاحبة الحق الأصلي – لتقرر في ضوء ما خبرته في أئمتها من صلاح أو فساد ان تجدد اختيارهم أو تعدل عنهم الى غيرهم فان قواعد السياسة الشرعية لا تأبى ذلك وربما كان في ذلك دافع للولاة والأئمة ان يستقيموا على الجادة وأن يحترموا ارادة شعوبهم العادلة ومطالبهم المشروعة حتى يتجدد اختيارهم من جديد.
وقد أشار الماوردي في الاحكام السلطانية الى جواز تعليق تولية الخليفة بالشروط في معرض حديثه عن العهد بالولاية، واستشهد بعمل النبي صلى الله عليه وسلم في تولية القواد في غزوة مؤتة، وعلل ذلك بأن الولايات من المصالح العامة التي يتسع حكمها على أحكام العقود الخاصة، وقد عمل ذلك في الدولتين الأموية والعباسية فلم ينكر أحد من علماء العصر.
وقد أشار الى ذلك أبو يعلى في الأحكام السلطانية كذلك.
ويقول المباركفوري: «ولقائل ان يقول اذا اتفقت الأمة والشورى على دستور يقضي بنهاية الحكم بمجرد انتهاء فترة محددة، فإن الذي يبقى بعد تلك الفترة على كرسي الحكم لا يكون حاكماً شرعياً وانما يكون مشرفاً مؤقتاً، أمسك بزمام الحكم ليسلمه الى من يتفق عليه أهل الحل والعقد».
فمثله كمثل ثابت بن الأرقم العجلاني الذي أخذ الراية في غزوة مؤتة بعد استشهاد آخر القواد الثلاثة الذين كان قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة – فقال لهم يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فلما اصطلحوا عليه أعطاه الراية وقاتل الصحابة كلهم تحت امارته وقيادته، هكذا اذاً كانت حياة السلف الصالح في طلب الامارة.
أما التجارب الحزبية المعاصرة فانها جميعاً منبثقة من رحم نظام علماني وكل هذه الأحزاب علمانية التوجه لم يقم منها واحد على تحكيم الشريعة واقامة الدين واستعادة الهوية الاسلامية والسعي لاقامة الدولة الاسلامية المنشودة.
فهل يعي ذلك شباب الدعوة اليوم؟

د.عبدالرحمن الجيران
Dr.aljeran_wk@yahoo.com

نقلا عن الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى